الذّنب

تكتب نهار 24 ديسمبر، 2020 مع 16:56 ثقافة وفن تابعونا على Scoop

الكاتب عبد الله أيت بولمان*

ربما كان البرد هو السبب، وربما كان الرعب الناتج عن مشهد هتشكوكي لازمني منذ زمان. مهما يكن فها أنذا منكمش في فراشي كجنين في بطن أمه أرى فيما يراه النائم أني كُــبّة خيط ملفوفة بإحكام. كبة من خيطين مختلفين، بينما تشاهد والدتي فيلما أبطاله، فيما يبدو، قردة. عرفت ذلك من تعليقاتها ومن عتاب خالتي التي دخلت على حين غرة:

ـ آ ويلي أ خيتي!، أنت حامل، ومن الممكن أن يشوه المولود من حيث لا تشعرين..

ـ انت اللي غادية تمسخي إن شاء الله! ولدي سيكون أجمل من يوسف، وستقطع الجارات أيديهن، ويأكل الحسد من حسناتهن مثلما تأكل النار الحطب.

ومع أن لكلمة “المسخ” في لا وعيي معنى آخر غير الذي وُظفت به ها هنا، فإنني لم أفتخر بوالدتي ساعتها إلا كما افتخرت بها في لقطة سابقة، حين اختلفتْ وجارتها العاقر حول الجنس الذي كانت تتمنى أن أكون عليه:

ـ سأسميه (سعيدا)؛ قالت والدتي وهي تمرر راحتها على ظاهر بطنها.

ـ ولم لا تسمينها (سعيدة)؟

ـ لأن المولود سيكون ذكرا..

ـ لكنّ الله وحده يعلم ما في الأرحام!

ـ ويعلم قبل ذلك ما تمنته الأم ليلة حملها.

ـ أظن أن الأهم أن يكون في أحسن تقويم على أن يكون ذكرا بعين واحدة

ـ ما حنا على فالك آ خيتي.

ـ .. أو مثل نسناس يجر خلفه ذنــــبا لا يتحكم فيه. ههههه

ـ فمك تلحسو جرانة إن شاء الله !

لكن خالتي لم تمتعض من الضفدعة التي لحست فمها، بل استمرت في “قـلْيِ السم” لأختها. ولم تكتف بتوظيف ما سمعته من مفتي الحرمين قبل أيام، بل سمعتُها تستعرض (سارتر)، وتتحدث عن أسبقية الوجود على الصفة، وعن قضايا فلسفية اخرى لا أدري متى ولا أين تعلمتْها.. لذلك قررت أن أنحاز إلى صفِّ والدتي، فاستجبتُ لرغبتها وجئـتُها فحلا صنديدا … لكني لم “أتسوّق” لـ (يوسف)، لا نكاية بوالدتي، ولا رفقا بجاراتنا وبخالتي. وإنما لعاهة وُلدتُ بها. قلت في نفسي: ما لي ولـيوسف؟ بودي أن أكون وسيـماً فأسعدَ والدتي، أما وقد ولدتُ وفي عُصعصي ذنـب فما جدوى الجمال؟ وما جدوى يوسف أو حتى عيسى في مثل هذا الوضع؟ الأجدى أن أكون كموسى. أقصد كشفرة حلاق. هكذا لن أصعّـر خدي الأيمن لمن سيسخر مني، وإنما سأرسم له “نايكة” على خده الأيسر هذه المرة. نعم، سأضحكه وبدون مقابل.

.. كان ذيلي ذهبيّ اللون يخاله الناظر نورا مشعا يخرج من دُبري، حتى إن صديقات والدتي تهافتن عليّ يلتمسن البركات. بركاتي طبعا. كان ذيلي بالرغم من ذلك دقيقا لا يكاد يُـرى، حتى إنّ قابلتي كادت منذ اليوم الأول تقطعه. بدا لها مثل خيط يتدلى من قِماطي فهمّتْ به لولا أني تأذّيت كثيرا، فصرخت كمن لسعه زنبور. بعد ذلك سمعتها تُـسِــرّ لوالدتي أنْ أبشري، فابنك عملة نادرة،  وسيكون له، لا محالة، شأن عظيم  !

مرت سنوات وأنا أخفي ذنبي في انتظار الشأن العظيم.. يطاوعني مرة وأطاوعه مرات. ألقنه الحشمة والوقار، فيأبى إلا أن يداعب خدّ جارتنا في وضح النهار. أثبّــته ناحية اليسار فيرتدّ إلى اليمين. أحسبه خلفي فإذا هو في الأمام.. ولست أدري أي حماقة يأتي حين أنام !

مرت سنوات زرتُ خلالها مائة وخمسة وثلاثين طبيبا وطبيبة واحدة. أما الأطباء فلم يجرؤ واحد منهم على استئصال عضوي الغريب مخافة مسّ أو جنون ! وأما الطبيبة ـ وأنا واثق من أنكم تتساءلون عن السر الكامن وراء هذا الرقم ـ فلا أعرف عنها، للأسف، سوى أنها ماتت وفي نفسها شيء من ذنبي العجيب.

ثم ما لبثتُ أن عرفتُ دجالا اشترط عليّ، لكي يُشفيني، أن يتبول عليّ ! لم أجد سببا وجيها لهذا الشرط، ولا أدركت العلاقة بين البول والشفاء، لكني أقنعت نفسي بأنه ربما فكر في إبطال سحر مسّني؛ ففوضتُ أمري للخالق واستسلمت له.. وحين حكيت ما جرى لصديقي روى لي نكتة ملخصها أن مخمورا قال لصاحبه: شحال تعطي نبول عليك وما تفزكش؟ قال الآخر ـ وكان أول دفعته في مادة الكيمياء ـ ما يمكنش أ صاحبي! واتفق أن أقنعه السكير بصدق دعواه فانبطح له.. وما هي إلا لحظة حتى كان الكيميائي يغرق في بركة من الملح، ويلعن دين اليوم وابن عم أبي اليوم الذي تعلم فيه مبادئ الكيمياء ..  لم يعتذر البوّال طبعا، وما ينبغي له، بل قال لصاحبه: وشنو بغيتيني ندير لك؟؟  ما صدقاتش !

فما أكثر ما يُبال علينا؛ وما أكثر ما لا تصدُق فيك يا وطني.

رجعت إذن من عند الدجال أجر لا ذيلي فحسب، وإنما ذيول الخيبة كلها.  فيا ذنَبي، أما كان بوسع قابلتي أن ترأف بي، فلا أكون قاب قوسين أو أدنى من أي غبي؟ ويا ذنبي، أما كُنتَ تكفي كمعجزةٍ لكي أكون كأي نبي ؟

يقول من سواني نطفة وأودعني في رحم السؤال أني انتبذت مكانا ظليلا بعد كل هذا المارطون، مكانا لا أرى فيه ولا يراني أحد. تناولت ذيلي بين يديّ، وبعدما حدثته طويلا وحدثني، أخذت أجذبه جذبا خفيفا أحسست معه ببعض الألم. آلمني أن أكون الضحية والجلاد، وتملكتني حُمّى لم أشعر بمثلها في حياتي. وبين الصحو والهذيان صحت كما يصيح مدربُ كونغ فوه أو لاعب تيكواندو حين ينجز كاطةً مُحْكمة، فإذا الذيل بين يديّ أو يكاد، لا يربطه بعصعصي سوى خيطٍ رفيع رحت أجره برفق، فإذا الخيط الأبيض ينفك عن الأسود، وإذا الكبة التي كنتها تصغر شيئا فشيئا إلى أن انتهتْ، أو بالأحرى إلى أن انتهيتُ. فما عاد لي ذنْب ولا عدتُ ذنَـباً لأحد.

 

*عبد الله آيت بولمان، شاعر وقاص وباحث مغربي. أستاذ للغة والأدب العربي. عضو نشيط في المجال الثقافي والعمل الجمعوي. له مجموعة من الأعمال الشعرية والقصصية منشورة في مواقع الكترونية مختلفة.

وصدر للأستاذ عبد الله ايت بولمان رواية موسومة بـ”أمادو”، يمكن اعتبارها أول عمل روائي، في المغرب على الأقل، يتناول الوضعية المزرية للمهاجرين غير الشرعيين الأفارقة.